بسم الله الرحمن الرحيم
التَّوْريَةُ لغة أَنْ يَذْكُرَ المتكلِّمُ لَفْظاً مُفْردًا له مَعْنَيانِ، قَريبٌ ظاهِر غَيْرُ مُرَادٍ ، وَبَعيدٌ خَفيٌّ هُوَ المُرادُ .
أما معناه الإصطلاحي فهو أن يقول كلاماً يظهر منه معنى يفهمه السامع و لكن يريد منه القائل معنىً آخر ، كأن يقول له ليس معي درهم في جيبي فيُفهم منه أنّه ليس معه أي مال أبداً و
يكون مراده أنه لا يملك درهماً لكن يملك ديناراً مثلاً .
و تُعتبر التورية من الحلول الجيدة لتَجَنُّب الحالات الحرجة التي قد يقع الإنسان فيها عندما يسأله أحدٌ عن أمرٍ و هو لا يريد إخباره بالواقع من جهة ، و لا يريد أن يكذب عليه من جهة أخرى
مثـــــــــــال:
قال سِرَاجُ الدين الوَرَّاق :
أصُونُ أديمَ وجهي عَن أُنَاس
لقاءُ الموتِ عِنْدهُم الأديبُ
وَرَبُّ الشعر عندهُمُ بَغِيضٌ
وَلَوْ وَافَى بهِ لَهُمُ "حبَيبُ"
كلمة "حَبيب" في المثال لها معنيان: أحدهما المحبوب وهو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهنْ بسبب التمهيد له بكلمة "بغيض"، والثاني اسم أبى تمام الشاعر وهو حبيبُ بنُ أَوْس، وهذا
المعنى بعيد. وقد أَراده الشاعر ولكنه تَلطف فَورَّى عنه وستره بالمعنى القريب
ما حكم التورية؟
التورية أن يريد الإنسان بكلامه ما يخالف ظاهر الكلام . وهي جائزة بشرطين : الأول : أن يكون اللفظ محتملاً لها .
والثاني : ألا تكون ظلماً . فلو قال رجل : أنا لا أنام إلا على وتد . والوتد عود يوضع في الجدار ويعلق عليه المتاع . وقال الرجل : أنا أريد بالوتد الجبل ، فهذه تورية صحيحة ، لأن اللفظ
يحتملها وليس فيها ظلمٌ لأحد .
وكذلك لو أن رجلاً قال : والله لا أنام إلا تحت السقف . ثم نام فوق السقف وقال : أردت بالسقف السماء. فهذا صحيح ، فقد سميت السماء سقفاً في قوله سبحانه : ( وجعلنا السماء سقفاً
محفوظاً ) الأنبياء /32 .
وكذلك لو استخدمت التورية للظلم فلا تجوز ، كمن أخذ حقاً من إنسان ثم ذهب إلى القاضي ، ولم تكن للمظلوم بيّنة فطلب القاضي من آخذ الحق أن يحلف أن ليس له عندك شيء ، فحلف
وقال : والله ما له عندي شيء ، فحكم له القاضي ، ثم كلمه بعض الناس في ذلك وعرفه أن هذه يمين غموس تغمس صاحبها في النار ، وقد جاء في الحديث : ( من حلف على يمين صبر
يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ). فقال هذا الحالف : أنا ما أردت النفي ، وإنما أردت الإثبات . ونيتي في كلمة "ما له" أن (ما) اسم موصول أي : والله
الذي له عندي شيء . فهذا وإن كان اللفظ يحتمله إلا أنه ظلم فلا يجوز ، ولهذا جاء في الحديث : ( يمينك على ما يصدقك به صاحبك ) ولا ينفعك التأويل عند الله ، وأنت الآن حالف على
يمين فاجرة .
ولو أن رجلاً اتهمت زوجته بالخيانة وهي بريئة منها فحلف وقال : والله إنها أختي وقال : أردت أنها أختي في الإسلام . فهذا تعريض صحيح لأنه أخته في الإسلام . وهي مظلومة " اهـ .
"مجموع دروس وفتاوى الحرم المكي" (3/367) للشيخ ابن عثيمين